الاثنين، 4 أبريل 2022

الجزء الثالث : ذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعِلَاجُ بِالْأَدْوِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ - فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْحُمَّى

 الجزء الثالث : ذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعِلَاجُ بِالْأَدْوِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ - فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْحُمَّى


الجزء الثالث : ذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعِلَاجُ بِالْأَدْوِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ - فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْحُمَّى


وَقَوْلُهُ: «بِالْمَاءِ» فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كُلُّ مَاءٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَاءُ زَمْزَمَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» ، عَنْ أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي، قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ، فَأَخَذَتْنِي الْحُمَّى، فَقَالَ: أَبْرِدْهَا عَنْكَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ: «إِنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ، أَوْ قَالَ: بِمَاءِ زَمْزَمَ»  . وَرَاوِي هَذَا قَدْ شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ جَزَمَ بِهِ لَكَانَ أَمْرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، إذْ هُوَ مُتَيَسِّرٌ عِنْدَهُمْ، وَلِغَيْرِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَاءِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ، هَلِ الْمُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ بِالْمَاءِ، أَوِ اسْتِعْمَالُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ، وَأَظُنُّ أَنَّ الَّذِي حَمَلَ مَنْ قَالَ:

الْمُرَادُ الصَّدَقَةُ بِهِ أَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْحُمَّى، وَلَمْ يَفْهَمْ وَجْهَهُ مَعَ أَنَّ لِقَوْلِهِ وَجْهًا حَسَنًا، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَكَمَا أَخْمَدَ لَهِيبَ الْعَطَشِ عَنِ الظَّمْآنِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، أَخْمَدَ اللَّهُ لَهِيبَ الْحُمَّى عَنْهُ جَزَاءً وِفَاقًا، وَلَكِنَّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ فِقْهِ الْحَدِيثِ وَإِشَارَتِهِ، وَأَمَّا الْمُرَادُ بِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ أبو نعيم وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أنس يَرْفَعُهُ: «إِذَا حُمَّ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنَ السَّحَرِ  .

وَفِي «سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ كِيرِ جَهَنَّمَ، فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ»  

وَفِي «الْمُسْنَدِ» وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ الحسن، عَنْ سمرة يَرْفَعُهُ: «الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ» ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَفْرَغَهَا عَلَى رَأْسِهِ فَاغْتَسَلَ  .

وَفِي «السُّنَنِ» : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ذُكِرَتِ الْحُمَّى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَبَّهَا رَجُلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبَّهَا فَإِنَّهَا تَنْفِي الذُّنُوبَ، كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»  .

لِمَا كَانَتِ الْحُمَّى يَتْبَعُهَا حِمْيَةٌ عَنِ الْأَغْذِيَةِ الرَّدِيئَةِ، وَتَنَاوُلِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ النَّافِعَةِ، وَفِي ذَلِكَ إعانة على تنقية البدن، ونفي أخبائثه وَفُضُولِهِ، وَتَصْفِيَتِهِ مِنْ مَوَادِّهِ الرَّدِيئَةِ، وَتَفْعَلُ فِيهِ كَمَا تَفْعَلُ النَّارُ فِي الْحَدِيدِ فِي نَفْيِ خَبَثِهِ، وَتَصْفِيَةِ جَوْهَرِهِ، كَانَتْ أَشْبَهَ الْأَشْيَاءِ بِنَارِ الْكِيرِ الَّتِي تُصَفِّي جَوْهَرَ الْحَدِيدِ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَعْلُومُ عِنْدَ أَطِبَّاءِ الْأَبْدَانِ.

وَأَمَّا تَصْفِيَتُهَا الْقَلْبَ مِنْ وَسَخِهِ وَدَرَنِهِ، وَإِخْرَاجَهَا خَبَائِثَهُ، فَأَمْرٌ يَعْلَمُهُ أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ، وَيَجِدُونَهُ كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ مَرَضُ الْقَلْبِ إِذَا صَارَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ، لَمْ يَنْفَعْ فِيهِ هَذَا الْعِلَاجُ.

فَالْحُمَّى تَنْفَعُ الْبَدَنَ وَالْقَلْبَ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَسَبُّهُ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ، وَذَكَرْتُ مَرَّةً وَأَنَا مَحْمُومٌ قول بعض الشعراء يسبّها:

زارت مكفّارة الذُّنُوبِ وَوَدَّعَتْ ... تَبًّا لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّع

قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا ... مَاذَا تُرِيدُ فقلت: ألاتقلعي

لَكَانَ أَوْلَى بِهِ، وَلَأَقْلَعَتْ عَنْهُ، فَأَقْلَعَتْ عَنِّي سَرِيعًا. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَثَرٍ لَا أَعْرِفُ حَالَهُ «حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ» . وَفِيهِ قَوْلَانِ، أحدهما: أن الحمّى تدخل في

كُلِّ الْأَعْضَاءِ وَالْمَفَاصِلِ، وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا، فَتُكَفِّرُ عَنْهُ- بِعَدَدِ كُلِّ مَفْصِلٍ- ذُنُوبَ يَوْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْبَدَنِ تَأْثِيرًا لَا يَزُولُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى سَنَةٍ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» «1» . إِنَّ أَثَرَ الْخَمْرِ يَبْقَى فِي جَوْفِ الْعَبْدِ، وَعُرُوقِهِ، وَأَعْضَائِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ أبو هريرة: ما من مرض يصيا بني أَحَبَّ إلَيَّ مِنَ الْحُمَّى، لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنِّي، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي كُلَّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنَ الْأَجْرِ.

وَقَدْ رَوَى الترمذي فِي «جَامِعِهِ» مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ يَرْفَعُهُ: «إِذَا أَصَابَتْ أَحَدَكُمُ الْحُمَّى- وَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيُطْفِئْهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَيَسْتَقْبِلْ نَهَرًا جَارِيًا، فَلْيَسْتَقْبِلْ جَرْيَةَ الْمَاءِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، وَصَدِّقْ رَسُولَكَ، وَيَنْغَمِسُ فِيهِ ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن برىء، وَإِلَّا فَفِي خَمْسٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ، فَسَبْعٌ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ فَتِسْعٌ، فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ»  .


قُلْتُ: وَهُوَ يَنْفَعُ فِعْلُهُ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ عَلَى الشَّرَائِطِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، فَإِنَّ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ لِبُعْدِهِ عَنْ مُلَاقَاةِ الشَّمْسِ، وَوُفُورِ الْقُوَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَّا أَفَادَهَا النَّوْمُ، وَالسُّكُونُ، وَبَرْدُ الْهَوَاءِ، فَتَجْتَمِعُ فِيهِ قُوَّةُ الْقُوَى، وَقُوَّةُ الدَّوَاءِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْبَارِدُ عَلَى حَرَارَةِ الْحُمَّى الْعَرَضِيَّةِ، أَوِ الْغِبِّ الْخَالِصَةِ، أَعْنِي الَّتِي لَا وَرَمَ مَعَهَا، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الرَّدِيئَةِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ، فَيُطْفِئُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ، لَا سِيِّمَا فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا بُحْرَانُ الْأَمْرَاضِ الْحَادَّةِ كَثِيرًا، سِيِّمَا فِي الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ لِرِقَّةِ أَخْلَاطِ سُكَّانِهَا، وَسُرْعَةِ انْفِعَالِهِمْ عَنِ الدِّوَاءِ النَّافِعِ.






0 التعليقات:

إرسال تعليق