قيل: أوحى الله تعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه: أتدري لم رزقت الأحمق؟ قال: لا يا رب. قال: ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال .
ولبعض العرب :
ولا تجزع إذا أعـسـرت يوما
فقد أيسرت في الزمن الـطـويـل
ولا تظنن بربك ظـن سـوء
فإن الله أولـى بـالـجـمـيـل
وإن الـعسر يتبعه يسـار
وقول الله أصـدق كـل قـيـل
فلو أن الـعـقـول تـسـوق رزقا
لكان المال عند ذوي العقول
وأوحى الله إلى يوسف عليه السلام:انظر إلى الأرض فنظر إليها، فانفجرت،فرأى دودة على صخرة، ومعها الطعام، فقال له: أتراني لمأغفل عنها، وأغفل عنك،وأنت نبي وابن نبي .
أخرج ابن عساكر في كتابه بسند متصل عن ابن الأعرابي أنه قال : بلغني أنه كان هنالك رجل من بني حنيفة يقال له جحدر بن مالك كان شجاعًا قد أغار على أهل حجر وناحيتها وبلغ ذلك الحجاج بن يوسف الثقفي فكتب لعامله في اليمامة يوبخه على تلاعب جحدر به وأمره بالاجتهاد في طلبه .
فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى فتيه من بني يربوع فجعل جعل عظيم إن قتلوا جحدر أو أتوا به أسيرًا فانطلقوا حتى كانوا قربين منه فأرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به ، فاطمئن إليهم فلما اقتربوا منه قيدوه وقدموا به على العامل ، فتوجه به معهم إلى الحجاح فلما أدخل على الحجاج قال من أنت فقال له أن حجدر ابن مالك ، فقال له الحجاج ما حملك على ما كان منك فقال جرئة الجنان وجفاء السلطان وكلب الزمان فقال له وما الذي بلغ منك فجرؤ جنانك فقال لو بلاني الأمير أكرمه الله لاختبرني لوجدني من صالح الأعوان وأشجع الفرسان ولوجدني من أنصح رعيته وذلك لأنني ما لقيت فارس إلا وكنت عليه في نفسي مقتدرًا .
فقال له الحجاج سنقدفك في مكان به أسد جائع فإن هو قتلك كفانا مؤنتك وإن أنت قتلته خلينا سبيلك ، فقال له أصلح الله الأمير عظمت المنة وقويت المحنة ، فقال الحجاج فإنا لسنا تاركينك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد فأمر الحجاج فربطت يمنه في عنقه وأرسل إلى السجن
وكتب الحجاج إلى عامله أن يوجه إليه بأسد قوي ، فأرسل به فلما ورد الأسد على الحجاج ، تم تجويعه لمدة ثلاثة أيام وأرسل إلى جحدر فأتي به من السجن ويديه مغلولة لعنقه وأعطي سيفًا فلما نظر للأسد أقبل عليه نحوه فوثب الأسد فتلاقه جحدر بالسيف فضربه ضربه فخر الأسد كأنخ خيمة قد سرعها الريح وسقط جحدر على ظهره ، فكبر الحجاج والناس جميعًا وأكرمه وأحسن جائزته
اراد احد الامراء ان يتحقق بنفسه من صحة ما قيل له عن وجود قاض عادل في امارته,يشخص الحقيقة في الحال ولا يستطيع احد من المحتالين خداعه ,فتنكر الامير في زي تاجر وامتطى جواده متوجه الى المدينة التي يقيم فيها القاضي ,وعند مدخل المدينة اقترب منه رجل كسيح يلتمس صدقة ,فاعطاه ثم واصل طريقه فاذا الكسيح يتشبت بردائه .
التفت التاجر الى الكسيح وساله :ما الذي تريده بعد؟ الم اعطك صدقة.
قال الكسيح :بلى,لكن اعمل معي معروفاً وخذني الى ساحة المدينة فاجابه الى طلبه ,وفي الساحة رفض الكسيح النزول عن ظهر الجواد.
فنهره التاجر قائلا :ما الذي يجلسك ؟هيا انزل.
قال الكسيح:ولم انزل والجواد ملكي
وعندما احتد النقاش تجمع الناس حولهما, واقترحو عليهما الذهاب الى القاضي.
مضى الاثنان الى القاضي , وكان الناس مجتمعين في المحكمة والحاجب يتنادي على المتخاصمين حسب الدور ,فاستدعى القاضي نجارا وسمانا ,كانا يتنازعان نقودا بيد التاجر .
قال النجار :اشتريت من هذا الشخص سمنا وعندما اخرجت محفظتي لانقده الثمن ,اختطفها من يدي محاولا نزع النقود,وهكذا جئنا اليك,يده على يدي ومحفظتي ولكن النقود نقودي .
اما السمان فقال :هذا كذب جاء النجار الي ليشتري سمناً وبعد ان ملات له ابريقا ,طلب مني ان افك له قطعة ذهبية فاخرجت المحفظة ووضعتها على الطاولة فاخذها واراد الهرب فامسكت به من يده وجئت الى هنا.
صمت القاضي ثم قال اتركا النقود هنا وتعالا غدا.
عندما جاء الدور للتاجر والكسيح ,قص التاجر بما حصل ثم امر القاضي الكسيح ان يأتي بحاجاته.
قال الكسيح :هذا كذب,كنت ممتطيا جوادي في ساحة المدينة فكان جالسا على الارض فطلب ان احمله فنقلته الى المكان الذي يرغب وعند الوصول رفض النزول وادعى ملكيته الجواد,
فكر القاضي ثم قال:اتركا الجواد عندي وتعالا غدا .
في اليوم الذي اجتمع المتخاصمون لسماع حكم القاضي ,تقدم النجار والسمان لمعرفة الحكم ,
قال ا لقاضي للنجار:النقود ملكك ثم اشار الى السمان قائلا :اما هذا فاضربوه بالعصا50 مرة.
ثم استدعى الحاجب التاجر والكسيح فوقفا بين يدي القاضي لسماع الحكم
سال القاضي التاجر:هل تستطيع ان تعرف جوادك من بين 20 جوادا؟
قال التاجر:نعم
قال القاضي للكسيح:وانت؟
فقال الكسيح:نعم ثم اخذهما القاضي الى الاسطبل فاشار التاجر في الحال الى جواده وقد ميزه بين 20 جواد وكذلك الكسيح تعرف على الجواد.
قال القاضي للتاجر:الجواد لك فخذه ,اما الكسيح فاضربوه بالعصا50 مرة.
بعد انتهاء المحاكمة ذهب القاضي لبيته فسار التاجر خلفه فالتقى به التاجر
فالتفت القاضي اليه وساله :ما الذي تريده.
قال التاجر : بلى,ولكني اردت ان اعلم كيف عرفت ان النقود ملك النجار وان الجواد لي
قال القاضي :اما امر النجار والسمان فقد وضعت النقود في قدح ماء ثم نظرت اليوم الى القدح لارى ما اذا كان السمن طافي على سطح الماء فلو النقود للسمان لكانت ملوثة بيديه الدسمتين,اما معرفة مالك الجواد كانت اصعب فالكسيح اشار مثلك في الحال الى الجواد ,ولكني لم اصطحبكما لتتعرفا على الجواد بل لارى على من سيتعرف الجواد ,وعندما اقتربت منه التفت الجواد براسه اليك وهكذا عرفت انه لك.
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلا ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلا, وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللا خلقها لهم قبل أن يخلقهم وأسكنهم إياها قبل إن يوجدهم وحفها بالمكاره وأخرجهم إلى دار الامتحان ليبلوهم أيهم أحسن عملا وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه وضرب مدة الحياة الفانية دونه أجلا وأودعها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وجلاها لهم حتى عاينوها بعين البصيرة التي هي أنفذ من رؤية البصر وبشرهم بما أعد لهم فيها على لسان رسوله فهي خير البُشر على لسان خير البشر وكمّل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا.
والحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا وباعث الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل إذ لم يخلقهم عبثا ولم يتركهم سدى ولو يغفلهم هملا بل خلقهم لأمر عظيم وهيأهم لخطب جسيم وعمّر لهم دارين فهذه لمن أجاب الداعي ولم يبغ سوى ربه الكريم بدلا وهذه لمن لم يجب دعوته ولم يرفع بها رأسا ولم يعلق بها أملا.
والحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه دعا عباده إلى دار السلام فعمّهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلا وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلا فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين فضله ورحمته ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.
وأشهد أن محمد عبده ورسوله وأمينة على وحيه وخيرته من خلقه أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين بعثه للإيمان مناديا وإلى دار السلام داعيا وللخليقة هاديا ولكتابه تاليا وفي مرضاته ساعيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيزه وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى الجنة جميع الطرق فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتح لهم حتى يكونوا خلفه من الداخلين وعلى منهاجه وطريقته من السالكين.
فسبحان من شرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره فدعا إلى الله وإلى جنته سرا وجهارا وأذّن بذلك بين أظهر الأمة ليلا ونهارا إلى أن طلع فجر الإسلام وأشرقت شمس الإيمان وعلت كلمة الرحمن وبطلت دعوة الشيطان وأضاءت بنور رسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد تفرقها وشتاتها فأشرق وجه الدهر حسنا وأصبح الظلام ضياء واهتدى كل حيران فلما كمل الله به دينه وأتم به نعمته ونشر به على الخلائق رحمته فبلغ رسالات ربه ونصح عباده وجاهد في الله حق جهاده خيّره بين المقام في الدنيا وبين لقائه والقدوم عليه فاختار لقاء ربه محبة له وشوقا إليه فاستأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأرفع الأسنى وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم وعدل الراغبون عن هديه إلى طرق الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده المؤمنون عليه كما وحد الله وعبده وعرّفنا به ودعا إليه.
أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم عُرض على السماوات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه إشفاقا ووجلا وقلن ربنا إن أمرتنا فسمعا وطاعة وان خيرتنا فعافيتك نريد لا نبغي بها بدلا وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه عن حمله وباء به على ظلمه وجهله فألقى أكثر الناس الحمل عن ظهورهم لشدة مؤنته عليهم وثقله فصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة لا ينظرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم ولا في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار التي هي طريق ومعبر إلى دار القرار ولا يتفكرون في قلة مقامهم في الدنيا الفانية وسرعة رحيلهم إلى الآخرة الباقية فقد ملكهم باعث الحس وغاب عنهم داعي العقل وشملتهم الغفلة وغرتهم الأماني الباطلة والخدع الكاذبة فخدعهم طول الأمل وران على قلوبهم سوء العمل فهمّهم في لذات الدنيا وشهوات النفوس كيف حصلت حصولها ومن أي وجه لاحت أخذوها إذا بدا لهم حظ من الدنيا بآخرتهم طاروا إليه زرافات ووحدانا وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثوابا من الله ولا رضوانا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
والعجب وكل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه وكل نفس من أنفاسه لا قيمة له إذا ذهب لم يرجع إليه فمطايا الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين يحمل ويسار به أعظم من سير البريد ولا يدري إلى أي الدارين ينقل فإذا نزل به الموت أشتد قلقه لخراب ذاته وذهاب لذاته لا لما سبق من جناياته وسلف من تفريطه حيث لم يقدم لحياته فإذا خطرت له خطرة عارضة لما خلق له دفعها باعتماده على العفو وقال قد أنبئنا أنه هو الغفور الرحيم وكأنه لم ينبأ أن عذابه هو العذاب الأليم.
ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمروا إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبدلا يزول ولا ينفذ بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليلا أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا ألآمه تزيد على لذّاته وأحزانه أضعاف مسراته وله مخاوف وآخره متآلف فيا عجبا من سفيه في صورة حليم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس وباع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار وأبكارا عرابا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام وأنهارا من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد ونداء المنادي يا أهل الجنة إن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا وتحيوا فلا تموتوا وتقيموا فلا تظعنوا وتشبوا فلا تهرموا بغناء المغنين:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسر والندامة إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم وردا ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولي بالكرم من بين العباد فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام وما أخفى لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر لعلم أي بضاعة أضاع وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع وعلم أن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا لا تعترية الآفات ولا يلحقه الزوال وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال.
فهم في روضات الجنة يتقلبون وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون وبالحور العين يتنعمون وبأنواع الثمار يتفكهون يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعلمون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قلب ولا استام! إلا أفراد من العباد فواعجبا لها كيف نام طالبها وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها وكيف قرت دونها أعين المشتاقين وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين.
شعر في وصف الجنة:
وما ذاك إلا غيرة أن ينالها ... سوى كفئها والرب بالخلق أعلم
وإن حجبت عنا بكل كريهة ... وحفت بما يؤذي النفوس ويؤلم
فلله ما في حشوها من مسرة ... وأصناف لذات بها يتنعم
ولله برد العيش بين خيامها ... وروضاتها والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد المز ... يد لوفد الحب لو كنت منهم
بذيالك الوادي يهيم صبابة ... محب يري أن الصبابة مغنم
ولله أفراح المحبين عندما ... يخاطبهم من فوقهم ويسلم
ولله أبصار ترى الله جهرة ... فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم
ولله كم من خيرة إن تبسمت ... أضاء لها نور من الفجر أعظم
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت ... ويا لذة الأسماع حين تكلم
ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت ... ويا خجلة الفجرين حين تبسم
فإن كنت ذا قلب عليل بحبها ... فلم يبق إلا وصلها لك مرهم
ولا سيّما في لثمها عند ضمها ... وقد صار منها تحت جيدك معصم
تراه إذا أبدت له حسن وجهها ... يلذ به قبل الوصال وينعم
تفكه منها العين عند إجتلائها ... فواكه شتى طلعها ليس يعدم
عناقيد من كرم وتفاح جنة ... ورمان أغصان به القلب مغرم
وللورد ما قد ألبسته خدودها ... وللخمر ما قد ضمه الريق والفم
تقسم منها الحسن في جمع واحد ... فيا عجبا من واحد يتقسم
لها فرق شتى من الحسن أجمعت ... بجملتها إن السلو محرم
تذكر بالرحمن بمن هو ناظر ... فينطق بالتسبيح لا يتلعثم
إذا قابلت جيش الهموم بوجهها ... تولي على أعقابه الجيش يهزم
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغبا ... فهذا زمان المهر فهو المقدم
ولما جرى ماء الشاب بغصنها ... تيقن حقا انه ليس يهرم
وكن مبغضا للخائنات لحبها ... فتحظى بها من دونهن وتنعم
وكن أيما ممن سواها فإنها ... لمثلك في جنات عدن تأيم
وصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز بعيد الفطر والناس صوم
وأقدم ولا تقنع بعيش منغص ... فما فاز باللذات من ليس يقدم
وأن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ... ولم يك فيها منزل لك يعلم
فحي على جنات عدن فأنها ... منازلها الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وحي على السوق الذي فيه يلتقي ... المحبون ذاك السوق للقوم تعلم
فما شئت خذ منه بلا ثمن له ... فقد أسلف التجار فيه واسلموا
وحي على يوم المزيد الذي به ... زيارة رب العرش فاليوم موسم
وحي على واد هنالك أفيح ... وتربته من إذفر المسك أعظم
منابر من نور هناك وفضة ... ومن خالص العقيان لا تتقصم
وكثبان مسك قد جعلن مقاعدا ... لمن دون أصحاب المنابر يعلم
فبينا هموا في عيشهم وسرورهم ... وأرزاقهم تجري عليهم ونقسم
ذاهم بنور ساطع أشرقت له ... بأقطارها الجنات لا يتوهم
تجلى لهم رب السماوات جهرة ... فيضحك فوق العرش ثم يكلم
سلام عليكم يسمعون جميعهم ... بآذانهم تسليمه إذ يسلم
يقول سلوني ما أشتهيتم فكل ما ... تريدون عندي أنني أنا أرحم
فقالوا جميعا نحن نسألك الرضا ... فأنت الذي تولى الجميل وترحم
فيعطيهم هذا ويشهد جميعهم ... عليه تعالى الله فالله أكرم
فيا بائعا هذا ببخس معجل ... كأنك لا تدري بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وهذا كتاب اجتهدت في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه فهو للمحزون سلوة وللمشتاق إلى تلك العرائس جلوة محرك للقلوب إلى أجل مطلوب وحاد للنفوس إلى مجاورة الملك القدوس ممتع لقارئه مشوق للناظر فيه لا يسأمه الجليس ولا يمله الأنيس مشتمل من بدائع الفوائد وفرائد القلائد على ما لعل المجتهد في الطلب لا يظفر به فيما سواه من الكتب مع تضمينه لجملة كثيرة من الأحاديث المرفوعات والآثار الموقوفات والأسرار المودعة في كثير من الآيات والنكت البديعات وإيضاح كثير من المشكلات والتنبيه على أصول من الأسماء والصفات إذا نظر فيه الناظر زاده إيمانا وجلى عليه الجنة حتى كأنه يشاهدها عيانا فهو مثير ساكن العزمات إلى روضات الجنات وباعث الهمم العليات إلى العيش الهني في تلك الغرفات.
وسميته حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح فإنه اسم يطابق مسماه ولفظ يوافق معناه والله يعلم ما قصدت وما بجمعه وتأليفه أردت فهو عند لسان كل عبد وقلبه وهو المطلع على نيته وكسبه وكان جل المقصود منه بشارة أهل السنة بما أعد الله لهم في الجنة فإنهم! المستحقون للبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ونعم الله عليهم باطنة وظاهرة وهم أولياء الرسول وحزبه ومن خرج عن سنته فهم أعداؤه وحربه لا تأخذهم في نصرة سنته ملامة اللوام ولا يتركون ما صح عنه لقول أحد من الأنام والسنة أجل في صدورهم من أن يقدموا عليها رأيا فقهيا أو بحثا جدليا أو خيالا صوفيا أو تناقضا كلاميا أو قياسا فلسفيا أو حكما سياسيا فمن قدم عليها شيئا من ذلك فباب الصواب عليه مسدود وهو عن طريق الرشاد مصدود.
فيا أيها الناظر فيه لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه ولك صفوه وعليه كدره وهذه بضاعته المزجاة تعرض عليك وبنات أفكاره تزف إليك فإن صادفت كفؤا كريما لم تعدم منه إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان وإن كان غيره فالله المستعان فما كان من صواب فمن الواحد المنان وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله برئ منه ورسوله.
الكتاب: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١هـ)