هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَضْمِينِ مَنْ طَبَّ النَّاسَ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِالطِّبِّ
رَوَى أبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الطِّبُّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ ضَامِنٌ»
هَذَا الْحَدِيثُ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَمْرٌ لُغَوِيٌّ، وَأَمْرٌ فِقْهِيٌّ، وَأَمْرٌ طِبِّيٌّ.
فَأَمَّا اللُّغَوِيُّ: فَالطِّبُّ بِكَسْرِ الطَّاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، يُقَالُ: عَلَى مَعَانٍ. مِنْهَا الْإِصْلَاحُ، يُقَالُ: طَبَّبْتُهُ: إِذَا أَصْلَحْتَهُ. وَيُقَالُ: لَهُ طِبٌّ بِالْأُمُورِ. أَيْ: لُطْفٌ وَسِيَاسَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا تَغَيَّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا ... كُنْتَ الطَّبِيبَ لَهَا بِرَأْيٍ ثَاقِبٍ.
وَمِنْهَا: الْحِذْقُ. قَالَ الجوهري: كُلُّ حَاذِقٍ طَبِيبٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ أبو عبيد: أَصْلُ الطِّبِّ: الْحِذْقُ بِالْأَشْيَاءِ وَالْمَهَارَةُ بِهَا. يُقَالُ لِلرَّجُلِ: طِبٌّ وَطَبِيبٌ:
إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عِلَاجِ الْمَرِيضِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: رَجُلٌ طَبِيبٌ: أَيْ حَاذِقٌ، سُمِّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ. قَالَ علقمة:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأْدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إِذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وَقَالَ عنترة:
إِنْ تُغْدِ فِي دُونِي الْقِنَاعَ فَإِنَّنِي ... طِبٌّ بأخد الفارس المستلئم
أَيْ: إِنْ تُرْخِي عَنِّي قِنَاعَكِ، وَتَسْتُرِي وَجْهَكِ رَغْبَةً عَنِّي، فَإِنِّي خَبِيرٌ حَاذِقٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الَّذِي قَدْ لَبِسَ لَأْمَةَ حَرْبِهِ.
وَمِنْهَا: الْعَادَةُ، يُقَالُ: لَيْسَ ذَاكَ بِطِبِّي، أَيْ: عَادَتِي، قَالَ فروة بن مسيك
فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ ... مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وَقَالَ أحمد بن الحسين المتنبي:
وَمَا التِّيهُ طِبِّي فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّنِي ... بَغِيضٌ إِلَيَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
وَمِنْهَا: السِّحْرُ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَطْبُوبٌ، أَيْ: مَسْحُورٌ، وَفِي «الصَّحِيحِ» فِي حَدِيثِ عائشة لَمَّا سَحَرَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسَ الْمَلَكَانِ عِنْدَ رَأْسِهِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ الْآخَرُ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟
قَالَ: فُلَانٌ الْيَهُودِيُّ.
قَالَ أبو عبيد: إِنَّمَا قَالُوا لِلْمَسْحُورِ: مَطْبُوبٌ، لِأَنَّهُمْ كَنَّوْا بِالطِّبِّ عَنِ السِّحْرِ، كَمَا كَنَّوْا عَنِ اللَّدِيغِ، فَقَالُوا: سَلِيمٌ تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ، وَكَمَا كَنَّوْا بِالْمَفَازَةِ عَنِ الْفَلَاةِ الْمُهْلِكَةِ الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا، فَقَالُوا: مَفَازَةٌ تَفَاؤُلًا بِالْفَوْزِ مِنَ الْهَلَاكِ.
وَيُقَالُ: الطِّبُّ لِنَفْسِ الدَّاءِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْأَسْلَتِ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّي ... أَسِحْرٌ كَانَ طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ
وَأَمَّا قَوْلُ الحماسي:
فَإِنْ كُنْتُ مَطْبُوبًا فَلَا زِلْتُ هَكَذَا ... وَإِنْ كُنْتُ مَسْحُورًا فلا برىء السِّحْرُ
فَإِنَّهُ أَرَادَ بِالْمَطْبُوبِ الَّذِي قَدْ سُحِرَ، وَأَرَادَ بِالْمَسْحُورِ: الْعَلِيلُ بِالْمَرَضِ.
قَالَ الجوهري: وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ: مَسْحُورٌ. وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ. وَمَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي قَدْ عَرَانِي مِنْكِ وَمِنْ حُبِّكِ أَسْأَلُ اللَّهَ دَوَامَهُ، وَلَا أُرِيدُ زَوَالَهُ، سَوَاءٌ كَانَ سِحْرًا أَوْ مَرَضًا.
وَالطِّبُّ: مُثَلَّثُ الطَّاءِ، فَالْمَفْتُوحُ الطَّاءِ: هُوَ الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ، وَكَذَلِكَ الطَّبِيبُ يُقَالُ لَهُ: طَبٌّ أَيْضًا. وَالطِّبُّ: بِكَسْرِ الطَّاءِ: فِعْلُ الطَّبِيبِ، وَالطُّبُّ بِضَمِّ الطَّاءِ: اسْمُ مَوْضِعٍ، قَالَهُ ابن السيد، وَأَنْشَدَ:
فَقُلْتُ هَلِ انْهَلْتُمْ بِطُبِّ رِكَابِكُمْ ... بِجَائِزَةِ الْمَاءِ الَّتِي طَابَ طِينُهَا
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَطَبَّبَ» ، وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ طَبَّ، لِأَنَّ لَفْظَ التَّفَعُّلِ يَدُلُّ عَلَى تَكَلُّفِ الشَّيْءِ وَالدُّخُولِ فِيهِ بِعُسْرٍ وَكُلْفَةٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، كَتَحَلَّمَ وَتَشَجَّعَ وَتَصَبَّرَ وَنَظَائِرِهَا، وَكَذَلِكَ بَنَوْا تَكَلَّفَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَيْسُ عَيْلَانَ وَمَنْ تَقَيَّسَا
وَأَمَّا الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ، فَإِيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، فَإِذَا تَعَاطَى عِلْمَ الطِّبِّ وَعَمَلَهُ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ، فَقَدْ هَجَمَ بِجَهْلِهِ عَلَى إِتْلَافِ الْأَنْفُسِ، وَأَقْدَمَ بِالتَّهَوُّرِ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَيَكُونُ قَدْ غَرَّرَ بِالْعَلِيلِ، فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ لِذَلِكَ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ العلم.
وقال الخطابي: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُعَالِجَ إِذَا تَعَدَّى، فَتَلِفَ الْمَرِيضُ كَانَ ضَامِنًا، وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلًا لَا يَعْرِفُهُ مُتَعَدٍّ، فَإِذَا تَوَلَّدَ مِنْ فِعْلِهِ التَّلَفُ ضَمِنَ الدِّيَةَ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِدُّ بِذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَرِيضِ وَجِنَايَةُ الْمُتَطَبِّبِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الفقهاء على عاقلته.
قُلْتُ: الْأَقْسَامُ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَعْطَى الصَّنْعَةَ حَقَّهَا وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ، فَتَوَلَّدَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، وَمِنْ جِهَةِ مَنْ يَطِبُّهُ تَلَفُ الْعُضْوِ أَوِ النَّفْسِ، أَوْ ذَهَابُ صِفَةٍ، فَهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، فَإِنَّهَا سِرَايَةُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا إِذَا خَتَنَ الصَّبِيَّ فِي وَقْتٍ، وَسِنُّهُ قَابِلٌ لِلْخِتَانِ، وَأَعْطَى الصَّنْعَةَ حَقَّهَا، فَتَلِفَ الْعُضْوُ أَوِ الصَّبِيُّ، لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَلِكَ إِذَا بَطَّ مِنْ عَاقِلٍ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَنْبَغِي بَطُّهُ فِي وَقْتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي فَتَلِفَ بِهِ، لَمْ يَضْمَنْ، وَهَكَذَا سِرَايَةُ كُلِّ مَأْذُونٍ فِيهِ لَمْ يَتَعَدَّ الْفَاعِلُ فِي سَبَبِهَا، كَسِرَايَةِ الْحَدِّ بِالِاتِّفَاقِ. وَسِرَايَةُ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لأبي حنيفة في إيجابه الضمان بها، وسراية التعزيز، وَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَالْمُعَلِّمِ الصَّبِيَّ، وَالْمُسْتَأْجِرِ الدَّابَّةَ، خِلَافًا لأبي حنيفة وَالشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِهِمَا الضَّمَانَ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ ضَرْبَ الدَّابَّةِ.
وَقَاعِدَةُ الْبَابِ إِجْمَاعًا وَنِزَاعًا: أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسِرَايَةُ الْوَاجِبِ مُهْدَرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا بَيْنَهُمَا فَفِيهِ النِّزَاعُ. فأبو حنيفة أَوْجَبَ ضَمَانَهُ مُطْلَقًا، وأحمد ومالك أَهْدَرَا ضَمَانَهُ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْمُقَدَّرِ، فَأَهْدَرَ ضَمَانَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُقَدَّرِ فَأَوْجَبَ ضَمَانَهُ. فأبو حنيفة نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْفِعْلِ إِنَّمَا وَقَعَ مَشْرُوطًا بِالسَّلَامَةِ، وأحمد ومالك نَظَرَا إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ أَسْقَطَ الضَّمَانَ، وَالشَّافِعِيُّ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ لَا يُمْكِنُ النُّقْصَانُ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُقَدَّرِ كَالتَّعْزِيرَاتِ، وَالتَّأْدِيبَاتِ، فَاجْتِهَادِيَّةٌ، فَإِذَا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه في مظنّة العدوان.
القسم الثاني: متطبّب جَاهِلٌ بَاشَرَتْ يَدُهُ مَنْ يَطِبُّهُ، فَتَلِفَ بِهِ، فَهَذَا إِنْ عَلِمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاهِلٌ لَا عِلْمَ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبِّهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ الصُّورَةُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ السِّيَاقَ وَقُوَّةَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَرَّ الْعَلِيلَ، وَأَوْهَمَهُ أَنَّهُ طَبِيبٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ ظَنَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ طَبِيبٌ، وَأَذِنَ لَهُ فِي طَبِّهِ لِأَجْلِ مَعْرِفَتِهِ، ضَمِنَ الطَّبِيبُ مَا جَنَتْ يَدُهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَصَفَ لَهُ دَوَاءً يَسْتَعْمِلُهُ، وَالْعَلِيلُ يَظُنُّ أَنَّهُ وَصَفَهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَحِذْقِهِ فَتَلِفَ بِهِ، ضَمِنَهُ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِيهِ أو صريح.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: طَبِيبٌ حَاذِقٌ، أَذِنَ لَهُ، وَأَعْطَى الصَّنْعَةَ حَقَّهَا، لَكِنَّهُ أَخْطَأَتْ يَدُهُ، وَتَعَدَّتْ إِلَى عُضْوٍ صَحِيحٍ فَأَتْلَفَهُ، مِثْلَ: أَنْ سَبَقَتْ يَدُ الْخَاتِنِ إِلَى الْكَمَرَةِ، فَهَذَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الثُّلُثَ فَمَا زَادَ، فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةٌ، فَهَلْ تَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أحمد. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الطَّبِيبُ ذِمِّيًّا، فَفِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ، أَوْ تَعَذَّرَ تَحْمِيلُهُ، فَهَلْ تَسْقُطُ الدِّيَةُ، أَوْ تَجِبُ فِي مال الجاني؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ بِصَنَاعَتِهِ، اجْتَهَدَ فَوَصَفَ لِلْمَرِيضِ دَوَاءً، فَأَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، فَقَتَلَهُ، فَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ دِيَةَ الْمَرِيضِ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الطَّبِيبِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِمَا الْإِمَامُ أحمد في خطأ الإمام والحاكم.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: طَبِيبٌ حَاذِقٌ، أَعْطَى الصَّنْعَةَ حَقَّهَا، فَقَطَعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ أَوْ صَبِيٍّ، أَوْ مَجْنُونٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ إِذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ خَتَنَ صَبِيًّا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَتَلِفَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ فِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْبَالِغُ، أَوْ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لَمْ يَضْمَنْ، وَيَحْتَمِلُ ألايضمن مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، فَلَا أَثَرَ لِإِذْنِ الْوَلِيِّ فِي إِسْقَاطِ الضَّمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا، فَلَا وَجْهَ لِضَمَانِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ مُتَعَدٍّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ، غَيْرُ مُتَعَدٍّ عِنْدَ الْإِذْنِ، قُلْتُ: الْعُدْوَانُ وَعَدَمُهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى فِعْلِهِ هُوَ، فَلَا أَثَرَ لِلْإِذْنِ وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.
وَالطَّبِيبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَطِبُّ بِوَصْفِهِ وَقَوْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَصُّ بِاسْمِ الطَّبَائِعِيِّ، ويمروده، وَهُوَ الْكَحَّالُ، وَبِمِبْضَعِهِ وَمَرَاهِمِهِ وَهُوَ الْجَرَائِحِيُّ، وَبِمُوسَاهُ وَهُوَ الْخَاتِنُ، وَبِرِيشَتِهِ وَهُوَ الْفَاصِدُ، وَبِمَحَاجِمِهِ وَمِشْرَطِهِ وَهُوَ الْحَجَّامُ، وَبِخَلْعِهِ وَوَصْلِهِ وَرِبَاطِهِ وَهُوَ الْمُجَبِّرُ، وَبِمِكْوَاتِهِ وَنَارِهِ وَهُوَ الْكَوَّاءُ، وَبِقِرْبَتِهِ وَهُوَ الْحَاقِنُ، وَسَوَاءٌ كَانَ طِبُّهُ لِحَيَوَانٍ بَهِيمٍ، أَوْ إِنْسَانٍ، فاسم الطبيب يطلق لغة على هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَخْصِيصُ النَّاسِ لَهُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَطِبَّاءِ عُرْفٌ حَادِثٌ، كَتَخْصِيصِ لَفْظِ الدَّابَّةِ بِمَا يَخُصُّهَا بِهِ كُلُّ قَوْمٍ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق