أهمية الإيمان بالغيبيات
علم الغيبيات من الأمور التي استأثر الله تعالى بها، واختص بها نفسه جل وعلا، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل، وهو يطلع من يرتضيه من رسله على بعض الغيب متى شاء وإذا شاء، وبذلك جاءت الآيات والأحاديث، قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: ١٢٣] .
وقال تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: ٢٠] .
وقال عز وجل: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: ٢٦] . وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: ١٧٩] . وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: ٥٠] يقول الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: " قل لهؤلاء المنكرين نبوتك: لست أقول لكم إني الرب الذي له خزائن السماوات والأرض، فأعلم غيوب الأشياء الخفية، التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء، فتكذبوني فيما أقول من ذلك؛ لأنه لا ينبغي أن يكون ربا إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية، وذلك هو الله الذي لا إله غيره " .
ومن الآيات في هذا المعنى قوله عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: ٦٥] . يقول الإمام القرطبي في تفسيرها: " فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه وتعالى شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه، ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: ٦٥] وقوله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: ١٨٧] فكان هذا كله مما استأثر الله بعلمه لا يشركه فيه غيره " .
ومن أصرح الآيات دلالة قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: ٥٩] الآية، وتفسيرها في سورة لقمان، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: ٣٤] يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير آية سورة لقمان: هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علم الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا، علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: ٣٤] في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك، وهذه - أي الآية - شبيهة بقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: ٥٩] وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس: مفاتيح الغيب .
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» .
فالآيات والأحاديث المذكورة وغيرها مما لم أذكره، تدل دلالة قاطعه على اختصاصه سبحانه وتعالى بعلم الغيب دون سواه من الأنبياء والرسل والملائكة والأولياء.
والإيمان بأشراط الساعة جزء من الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان. والإيمان بالغيب هو أساس الإيمان كله؛ لأن أركان الإيمان كلها من الأمور الغيبية، وقد بين الله عز وجل في كتابه المبين أن الإيمان بالغيب من صفات المؤمنين المتقين فقال عز وجل: {الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ - أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: ١ - ٥] .
ومعلوم - من الدين بالضرورة - أن علم الغيب من خصائص الله وحده - كما سبق بيان ذلك - ولقد شاء الله تبارك وتعالى أن يجعل علم الساعة غيبا من جملة علم الغيب الذي استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه لا نبيا مرسلا، ولا ملكا مقربا، وذلك ليبقى الناس من الساعة على حذر دائم، وتوقع مستمر واستعداد كامل لاتخاذ الزاد المناسب لها، فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل، والإيمان بذلك من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر. والرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أفضل الخلق وأحبهم إلى الله عز وجل، وقد خصهم الله بمزايا كثيرة وأكرمهم
بمعجزات عديدة لم يدع أحد منهم علم الغيب، بل جميعهم كانوا يتبرؤون من ذلك، ويردون علم الغيب إلى الله سبحانه وتعالى، فنوح عليه السلام قال لقومه: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: ٣١] .
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الرسل والأنبياء أجمعين، ينفي عن نفسه معرفة العيب، فقد قال الله في كتابه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: ٩] وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ١٨٨] .
وعن مسروق قال: «كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية وذكرت منها: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: ٦٥] » .
وعلى الرغم من هذه الأدلة القاطعة الواضحة، عن عدم علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالغيب، نجد من ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة الغيب ويستدلون على ذلك بالاستثناء الوارد في قوله عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: ٢٦ - ٢٧] وليس في ذلك حجة لأحد؛ لأن المراد بالغيب هنا ما يتعلق بالوحي خاصة.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: فإن بعض من لم يرسخ في الإيمان، كان يظن ذلك، حتى كان يرى أن صحة النبوة تستلزم اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المغيبات، كما وقع في المغازي لابن إسحاق أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ضلت، فقال زيد بن لصيت يزعم محمد أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رجلا يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في شعب كذا، قد حبستها شجرة» ، فذهبوا فجاءوه بها. فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وهو مطابق لقوله تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: ٢٦ - ٢٧] .
فهذا الرجل - زيد بن لصيت - عندما قال هذا كان مشركا، وكان يعتقد أن النبوة لا تصح إلا إذا كان النبي يعلم الغيب. ولكن ما بال بعض المسلمين
اليوم، وما عذرهم بعد هذا البيان الشافي من الرسول صلى الله عليه وسلم مع وضوح الأدلة في هذه المسألة، وأما ما ثبت بالقرآن أن عيسى عليه السلام كان يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، كما في قوله تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ٤٩] وأن يوسف عليه السلام كان ينبئهم بتأويل الطعام قبل أن يأتي إليهم. والذي حدث لرسولنا صلى الله عليه وسلم منه الكثير، مثل ما مر علينا قبل قليل من خبر الناقة وغيره كل ذلك من باب المعجزات، فكما جاء في الآية السابقة على لسان عيسى عليه السلام نفسه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٢٤٨] فالآية هي المعجزة.
وبهذا تظهر لنا أهمية الإيمان بالغيب ومكانته في الإسلام، فهو صفة المؤمنين المتقين، وكل من يدعي علما بشيء من الغيب من تلقاء نفسه، يكون ضالا ومكذبا لخبر الله عز وجل. ونصوص الكتاب والسنة تبين أن علم الغيب من خصائص المولى تبارك وتعالى، وهذا يبين لنا حكم الذين يزعمون أنهم يخبرون عما سيقع في المستقبل من حوادث، أو يزعمون علم ما في نفس الإنسان، وغير ذلك من كذب ودجل وشعوذة، مما نجد له صورا في بعض الصحف والمجلات التي تحتوي على زاوية لقراءة حظ الإنسان، أو معرفة ما يقع له في المستقبل خلال معرفة الأبراج والكواكب، نسأل الله السلامة والعافية.
الكتاب: أشراط الساعة
المؤلف: عبد الله بن سليمان الغفيلي
0 التعليقات:
إرسال تعليق