الأحد، 15 يناير 2023

هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِفْرَاغِ بِالْقَيْءِ - الطب النبوي

 هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِفْرَاغِ بِالْقَيْءِ

هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِفْرَاغِ بِالْقَيْءِ - الطب النبوي



رَوَى الترمذي فِي «جَامِعِهِ» عَنْ معدان بن أبي طلحة، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ، فَتَوَضَّأَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:
صَدَقَ، أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ. قَالَ الترمذي: وَهَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ في الباب  .

الْقَيْءُ: أَحَدُ الْاِسْتِفْرَاغَاتِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الِاسْتِفْرَاغِ، وَهِيَ الْإِسْهَالُ، وَالْقَيْءُ، وَإِخْرَاجُ الدَّمِ، وَخُرُوجُ الْأَبْخِرَةِ وَالْعَرَقِ، وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ.
فَأَمَّا الْإِسْهَالُ: فَقَدْ مَرَّ فِي حَدِيثِ «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْمَشِيُّ» وَفِي حَدِيثٍ «السَّنَا.
وَأَمَّا إِخْرَاجُ الدَّمِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْحِجَامَةِ.
وَأَمَّا اسْتِفْرَاغُ الْأَبْخِرَةِ، فَنَذْكُرُهُ عَقِيبَ هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا الِاسْتِفْرَاغُ بِالْعَرَقِ، فَلَا يَكُونُ غَالِبًا بِالْقَصْدِ، بَلْ بِدَفْعِ الطَّبِيعَةِ لَهُ إِلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ، فَيُصَادِفُ الْمَسَامَّ مُفَتَّحَةً، فَيَخْرُجُ منها.
والقيء استفراغ من أعلا الْمَعِدَةِ، وَالْحُقْنَةُ مِنْ أَسْفَلِهَا، وَالدَّوَاءُ مِنْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا، وَالْقَيْءُ: نَوْعَانِ: نَوْعٌ بِالْغَلَبَةِ وَالْهَيَجَانِ، وَنَوْعٌ بِالِاسْتِدْعَاءِ وَالطَّلَبِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا يَسُوغُ حَبْسُهُ وَدَفْعُهُ إِلَّا إِذَا أَفْرَطَ وَخِيفَ مِنْهُ التَّلَفُ، فَيُقْطَعُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي تُمْسِكُهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَنْفَعُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِذَا رُوعِيَ زَمَانُهُ وَشُرُوطُهُ الَّتِي تُذْكَرُ.
وَأَسْبَابُ الْقَيْءِ عَشَرَةٌ.
أَحَدُهَا: غَلَبَةُ الْمِرَّةِ الصَّفْرَاءِ، وَطَفْوُهَا عَلَى رَأْسِ الْمَعِدَةِ، فَتَطْلُبُ الصُّعُودَ.
الثَّانِي: مِنْ غَلَبَةِ بَلْغَمٍ لَزِجٍ قَدْ تَحَرَّكَ فِي الْمَعِدَةِ، وَاحْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَعْفِ الْمَعِدَةِ فِي ذَاتِهَا، فَلَا تَهْضِمُ الطَّعَامَ، فَتَقْذِفُهُ إِلَى جِهَةِ فَوْقَ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُخَالِطَهَا خَلْطٌ رَدِيءٌ يَنْصَبُّ إِلَيْهَا، فَيُسِيءُ هَضْمَهَا، وَيُضْعِفُ فِعْلَهَا.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ زِيَادَةِ الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي تَحْتَمِلُهُ الْمَعِدَةُ، فَتَعْجِزُ عَنْ إِمْسَاكِهِ، فَتَطْلُبُ دَفْعَهُ وَقَذْفَهُ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لَهَا، وَكَرَاهَتِهَا لَهُ، فَتَطْلُبُ دَفْعَهُ وَقَذْفَهُ.
السَّابِعُ: أَنْ يَحْصُلَ فِيهَا مَا يُثَوِّرُ الطَّعَامَ بِكَيْفِيَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ، فَتَقْذِفُ بِهِ.
الثَّامِنُ: الْقَرَفُ، وَهُوَ مُوجِبُ غَثَيَانِ النَّفْسِ وَتَهَوِّعِهَا.


التَّاسِعُ: مِنَ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ، كَالْهَمِّ الشَّدِيدِ، وَالْغَمِّ، وَالْحَزَنِ، وَغَلَبَةِ اشْتِغَالِ الطَّبِيعَةِ وَالْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ بِهِ، وَاهْتِمَامِهَا بِوُرُودِهِ عَنْ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ، وَإِصْلَاحِ الْغِذَاءِ، وَإِنْضَاجِهِ، وَهَضْمِهِ، فَتَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ تَحَرُّكِ الْأَخْلَاطِ عِنْدَ تَخَبُّطِ النَّفْسِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ يَنْفَعِلُ عَنْ صَاحِبِهِ، وَيُؤَثِّرُ فِي كَيْفِيَّتِهِ.
الْعَاشِرُ: نَقْلُ الطَّبِيعَةِ بِأَنْ يَرَى مَنْ يَتَقَيَّأُ، فَيَغْلِبُهُ هُوَ الْقَيْءُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ نَقَّالَةٌ.
وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ، قَالَ: كَانَ لِي ابْنُ أُخْتٍ حَذَقَ فِي الْكُحْلِ، فَجَلَسَ كَحَّالًا، فَكَانَ إِذَا فَتَحَ عَيْنَ الرَّجُلِ، وَرَأَى الرَّمَدَ وَكَحَّلَهُ، رَمِدَ هُوَ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَتَرَكَ الْجُلُوسَ. قُلْتُ لَهُ: فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَقْلُ الطَّبِيعَةِ، فَإِنَّهَا نَقَّالَةٌ، قَالَ: وَأَعْرِفُ آخَرَ، كَانَ رَأَى خُرَّاجًا فِي مَوْضِعٍ مِنْ جِسْمِ رَجُلٍ يَحُكُّهُ، فَحَكَّ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، فَخَرَجَتْ فِيهِ خُرَّاجَةٌ. قلت: وكل هذا لابد فِيهِ مِنِ اسْتِعْدَادِ الطَّبِيعَةِ، وَتَكُونُ الْمَادَّةُ سَاكِنَةً فِيهَا غَيْرَ مُتَحَرِّكَةٍ، فَتَتَحَرَّكُ لِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَهَذِهِ أَسْبَابٌ لِتَحَرُّكِ الْمَادَّةِ لَا أَنَّهَا هي الموجبة لهذا العارض.

وَلَمَّا كَانَتِ الْأَخْلَاطُ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَالْأَزْمِنَةِ الْحَارَّةِ تَرِقُّ وَتَنْجَذِبُ إِلَى فَوْقَ، كَانَ الْقَيْءُ فِيهَا أَنْفَعَ. وَلَمَّا كَانَتْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْبَارِدَةِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ تَغْلُظُ، وَيَصْعُبُ جَذْبُهَا إِلَى فَوْقَ، كَانَ اسْتِفْرَاغُهَا بِالْإِسْهَالِ أَنْفَعَ.
وَإِزَالَةُ الْأَخْلَاطِ وَدَفْعُهَا تَكُونُ بِالْجَذْبِ وَالِاسْتِفْرَاغِ، وَالْجَذْبُ يَكُونُ مِنْ أَبْعَدِ الطُّرُقِ، وَالِاسْتِفْرَاغُ مِنْ أَقْرَبِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَادَّةَ إِذَا كَانَتْ عَامِلَةً فِي الِانْصِبَابِ أَوِ التَّرَقِّي لَمْ تَسْتَقِرَّ بَعْدُ، فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْجَذْبِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَصَاعِدَةً جُذِبَتْ مِنْ أَسْفَلَ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْصَبَّةً جُذِبَتْ مِنْ فَوْقَ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا، اسْتَفْرَغَتْ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَيْهَا، فَمَتَى أَضَرَّتِ الْمَادَّةُ بِالْأَعْضَاءِ الْعُلْيَا، اجْتُذِبَتْ مِنْ أَسْفَلَ، وَمَتَى أَضَرَّتْ بِالْأَعْضَاءِ السُّفْلَى، اجْتُذِبَتْ مِنْ فَوْقَ، وَمَتَى اسْتَقَرَّتِ، اسْتَفْرَغَتْ مِنْ أَقْرَبِ مَكَانٍ إِلَيْهَا، وَلِهَذَا احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَاهِلِهِ تَارَةً، وَفِي رَأْسِهِ أُخْرَى، وَعَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ تَارَةً، فَكَانَ يَسْتَفْرِغُ مَادَّةَ الدَّمِ الْمُؤْذِي مِنْ أقرب مكان إليه. والله أعلم.

وَالْقَيْءُ يُنَقِّي الْمَعِدَةَ وَيُقَوِّيهَا، وَيُحِدُّ الْبَصَرَ، وَيُزِيلُ ثِقَلَ الرَّأْسِ، وَيَنْفَعُ قُرُوحَ الْكُلَى، وَالْمَثَانَةِ، وَالْأَمْرَاضَ الْمُزْمِنَةَ كَالْجُذَامِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالْفَالِجِ وَالرَّعْشَةِ، وَيَنْفَعُ الْيَرَقَانَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ الصَّحِيحُ فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ حِفْظِ دَوْرٍ، لِيَتَدَارَكَ الثَّانِي مَا قَصَّرَ عَنْهُ الْأَوَّلُ، وَيُنَقِّي الْفَضَلَاتِ الَّتِي انْصَبَّتْ بِسَبَبِهِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يَضُرُّ الْمَعِدَةَ، وَيَجْعَلُهَا قَابِلَةً لِلْفُضُولِ، وَيَضُرُّ بِالْأَسْنَانِ وَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ، وَرُبَّمَا صَدَعَ عِرْقًا، وَيَجِبُ أَنْ يَجْتَنِبَهُ مَنْ بِهِ وَرَمٌ فِي الْحَلْقِ، أَوْ ضَعْفٌ فِي الصَّدْرِ، أَوْ دَقِيقُ الرَّقَبَةِ، أَوْ مُسْتَعِدٌّ لِنَفْثِ الدَّمِ، أَوْ عُسْرِ الْإِجَابَةِ لَهُ.
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُسِيءُ التَّدْبِيرَ، وَهُوَ أَنْ يمتلىء مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ يَقْذِفُهُ، فَفِيهِ آفَاتٌ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا: أَنَّهُ يُعَجِّلُ الْهَرَمَ، وَيُوقِعُ فِي أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ، وَيَجْعَلُ الْقَيْءَ لَهُ عَادَةً. وَالْقَيْءُ مَعَ الْيُبُوسَةِ، وَضَعْفِ الْأَحْشَاءِ، وَهُزَالِ الْمَرَاقِّ «١» . أَوْ ضَعْفِ الْمُسْتَقِيءِ خَطَرٌ.
وَأَحْمَدُ أَوْقَاتِهِ الصَّيْفُ وَالرَّبِيعُ دُونَ الشِّتَاءِ وَالْخَرِيفِ، وَيَنْبَغِي عِنْدَ الْقَيْءِ أَنْ يَعْصِبَ الْعَيْنَيْنِ، وَيَقْمِطَ الْبَطْنَ، وَيَغْسِلَ الْوَجْهَ بِمَاءٍ بَارِدٍ عِنْدَ الْفَرَاغِ، وَأَنْ يَشْرَبَ عَقِيبَهُ شَرَابَ التِّفَّاحِ مَعَ يَسِيرٍ مِنْ مُصْطَكَى، وَمَاءُ الْوَرْدِ يَنْفَعُهُ نفعا بيتا.
وَالْقَيْءُ يُسْتَفْرَغُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ، وَيُجْذَبُ مِنْ أَسْفَلَ، وَالْإِسْهَالُ بِالْعَكْسِ، قَالَ أبقراط: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْرَاغُ فِي الصَّيْفِ مِنْ فَوْقَ أَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِفْرَاغِ بِالدَّوَاءِ، وَفِي الشِّتَاءِ مِنْ أَسْفَلَ.

الكتاب: الطب النبوي (جزء من كتاب زاد المعاد لابن القيم)
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١هـ)



0 التعليقات:

إرسال تعليق