الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022

هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَاجِ الصَّرَعِ الطب النبوي لإبن القيم

  هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَاجِ الصَّرَعِ


هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَاجِ الصَّرَعِ الطب النبوي لإبن القيم



أَخْرَجَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ لَكِ أَنْ يُعَافِيَكِ» ، فَقَالَتْ: أصبر. قالت فإني أتكشّف، فادع الله ألاأتكشف، فَدَعَا لَهَا 
قُلْتُ: الصَّرَعُ صَرَعَانِ: صَرَعٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَصَرَعٌ مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ. وَالثَّانِي: هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ فِي سَبَبِهِ وَعِلَاجِهِ.
وَأَمَّا صَرَعُ الْأَرْوَاحِ، فَأَئِمَّتُهُمْ وَعُقَلَاؤُهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَلَا يَدْفَعُونَهُ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ عِلَاجَهُ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْوَاحِ الشَّرِيفَةِ الْخَيِّرَةِ الْعُلْوِيَّةِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ الْخَبِيثَةِ، فَتُدَافُعُ آثَارَهَا، وَتُعَارِضُ أَفْعَالَهَا وَتُبْطِلُهَا، وقد نص على ذلك بقراط فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، فَذَكَرَ بَعْضَ عِلَاجِ الصَّرَعِ، وَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ مِنَ الصَّرَعِ الَّذِي سَبَبُهُ الْأَخْلَاطُ وَالْمَادَّةُ. وَأَمَّا الصَّرَعُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَرْوَاحِ، فَلَا يَنْفَعُ فِيهِ هَذَا الْعِلَاجُ.
وَأَمَّا جَهَلَةُ الْأَطِبَّاءِ وَسَقَطُهُمْ وَسِفْلَتُهُمْ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ بالزندقة فضيلة، فأؤلئك يُنْكِرُونَ صَرَعَ الْأَرْوَاحِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ إِلَّا الْجَهْلُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الصِّنَاعَةِ الطِّبِّيَّةِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَالْحِسُّ وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِهِ، وَإِحَالَتُهُمْ ذَلِكَ على غلبة بعض الأخلاط، وصادق فِي بَعْضِ أَقْسَامِهِ لَا فِي كُلِّهَا.
وَقُدَمَاءُ الْأَطِبَّاءِ كَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا الصَّرَعَ: الْمَرَضَ الْإِلَهِيَّ، وَقَالُوا: إنَّهُ مِنَ الْأَرْوَاحِ، وَأَمَّا جَالِينُوسُ وَغَيْرُهُ، فَتَأَوَّلُوا عَلَيْهِمْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا سَمَّوْهُ بِالْمَرَضِ الْإِلَهِيِّ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعِلَّةِ تَحْدُثُ فِي الرَّأْسِ، فَتَضُرُّ بِالْجُزْءِ الْإِلَهِيِّ الطَّاهِرِ الَّذِي مَسْكَنُهُ الدماغ.


وَهَذَا التَّأْوِيلُ نَشَأَ لَهُمْ مِنْ جَهْلِهِمْ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَأَحْكَامِهَا، وَتَأْثِيرَاتِهَا، وَجَاءَتْ زَنَادِقَةُ الْأَطِبَّاءِ فَلَمْ يُثْبِتُوا إِلَّا صَرَعَ الْأَخْلَاطِ وَحْدَهُ.
وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرَاتِهَا يَضْحَكُ مِنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ.
وَعِلَاجُ هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ: أَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ، وَأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعَالِجِ، فَاَلَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ يَكُونُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ إِلَى فَاطِرِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَبَارِئِهَا، وَالتَّعَوُّذِ الصَّحِيحِ الَّذِي قَدْ تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، فَإِنَّ هَذَا نَوْعُ مُحَارَبَةٍ، وَالْمُحَارِبُ لَا يَتِمُّ لَهُ الِانْتِصَافُ مِنْ عَدُوِّهِ بِالسِّلَاحِ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ السِّلَاحُ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ جَيِّدًا، وَأَنْ يَكُونَ السَّاعِدُ قَوِيًّا، فَمَتَى تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُغْنِ السِّلَاحُ كَثِيرَ طَائِلٍ، فَكَيْفَ إِذَا عُدِمَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا: يَكُونُ الْقَلْبُ خَرَابًا مِنَ التَّوْحِيدِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالتَّقْوَى، وَالتَّوَجُّهِ، وَلَا سِلَاحَ لَهُ.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْمُعَالِجِ، بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُعَالِجِينَ مَنْ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ: «اخْرُجْ مِنْهُ» . أَوْ بِقَوْلِ: «بِسْمِ اللَّهِ» ، أَوْ بِقَوْلِ «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ» ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ»  .
وَشَاهَدْتُ شَيْخَنَا يُرْسِلُ إِلَى الْمَصْرُوعِ مَنْ يُخَاطِبُ الرُّوحَ الَّتِي فِيهِ، وَيَقُولُ:
قَالَ لَكِ الشَّيْخُ: اخْرُجِي، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكِ، فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ، وَرُبَّمَا خَاطَبَهَا بِنَفْسِهِ، وَرُبَّمَا كَانَتِ الرُّوحُ مَارِدَةً فَيُخْرِجُهَا بِالضَّرْبِ، فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ وَلَا يَحُسُّ بِأَلَمٍ، وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْهُ ذَلِكَ مِرَارًا.
وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المضروع: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ 
وَحَدَّثَنِي أَنَّهُ قَرَأَهَا مَرَّةً فِي أُذُنِ الْمَصْرُوعِ، فَقَالَتِ الرُّوحُ: نَعَمْ، وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ.
قَالَ: فَأَخَذْتُ لَهُ عَصًا، وَضَرَبْتُهُ بِهَا فِي عُرُوقِ عُنُقِهِ حَتَّى كَلَّتْ يَدَايَ مِنَ الضَّرْبِ، وَلَمْ يشكّ الحاضرون أنه يموت لذلك الضربة ففي أثناء الضرب قالت: «أنا أحبّه، فَقُلْتُ لَهَا: هُوَ لَا يُحِبُّكِ، قَالَتْ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ بِهِ، فَقُلْتُ لَهَا هُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ، فَقَالَتْ أَنَا أَدَعُهُ كَرَامَةً لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: لَا وَلَكِنْ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَتْ:
فَأَنَا أَخْرُجُ مِنْهُ، قَالَ: فَقَعَدَ الْمَصْرُوعُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَقَالَ: مَا جَاءَ بِي إِلَى حَضْرَةِ الشَّيْخِ، قَالُوا لَهُ: وَهَذَا الضَّرْبُ كُلُّهُ؟ فَقَالَ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَضْرِبُنِي الشَّيْخُ وَلَمْ أُذْنِبْ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِأَنَّهُ وَقَعَ بِهِ ضَرْبٌ الْبَتَّةَ
وَكَانَ يُعَالِجُ بِآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهَا الْمَصْرُوعَ وَمَنْ يُعَالِجُهُ بِهَا، وَبِقِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الصَّرَعِ، وَعِلَاجِهِ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا قَلِيلُ الْحَظِّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأَكْثَرُ تَسَلُّطِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ عَلَى أَهْلِهِ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ قِلَّةِ دِينِهِمْ، وَخَرَابِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ حَقَائِقِ الذِّكْرِ، وَالتَّعَاوِيذِ، وَالتَّحَصُّنَاتِ النَّبَوِيَّةِ وَالْإِيمَانِيَّةِ، فَتَلْقَى الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ الرَّجُلَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ عُرْيَانًا فَيُؤَثِّرُ فِيهِ هَذَا.
وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ، لَرَأَيْتَ أَكْثَرَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ صَرْعَى هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ، وَهِيَ فِي أَسْرِهَا وَقَبْضَتِهَا تَسُوقُهَا حَيْثُ شَاءَتْ، وَلَا يُمْكِنُهَا الِامْتِنَاعُ عَنْهَا وَلَا مُخَالَفَتُهَا، وَبِهَا الصَّرَعُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَا يُفِيقُ صَاحِبُهُ إِلَّا عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَالْمُعَايَنَةِ، فَهُنَاكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ كَانَ هُوَ الْمَصْرُوعَ حَقِيقَةً، وَبِاَللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَعِلَاجُ هَذَا الصَّرَعِ بِاقْتِرَانِ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَقِبْلَةَ قَلْبِهِ، وَيَسْتَحْضِرَ أَهْلَ الدُّنْيَا، وَحُلُولَ الْمَثُلَاتِ وَالْآفَاتِ بِهِمْ، وَوُقُوعَهَا خِلَالَ دِيَارِهِمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ، وَهُمْ صَرْعَى لَا يُفِيقُونَ، وَمَا أَشَدَّ دَاءَ هَذَا الصَّرَعِ، وَلَكِنْ لَمَّا عَمَّتِ الْبَلِيَّةُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يُرَى إِلَّا مَصْرُوعًا، لَمْ يَصِرْ مُسْتَغْرَبًا وَلَا مُسْتَنْكَرًا، بَلْ صَارَ لِكَثْرَةِ الْمَصْرُوعِينَ عَيْنَ الْمُسْتَنْكَرِ الْمُسْتَغْرَبِ خِلَافَهُ.
فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَفَاقَ مِنْ هَذِهِ الصَّرْعَةِ، وَنَظَرَ إِلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مَصْرُوعِينَ حَوْلَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْبَقَ بِهِ الْجُنُونُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا قَلِيلَةً، وَيَعُودُ إِلَى جُنُونِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ مَرَّةً، وَيُجَنُّ أُخْرَى، فَإِذَا أَفَاقَ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ الْإِفَاقَةِ وَالْعَقْلِ، ثُمَّ يعاوده الصرع فيقع في التخبط.




0 التعليقات:

إرسال تعليق