في
العدل والإحسان والإنصاف
قال في المستطرف (1) : اعلم أرشدك الله أن الله تعالى أمر بالعدل، ثم علم
سبحانه وتعالى أنه ليس كل النفوس تصلح على العدل بل تطلب الإحسان وهو
فوق العدل فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَنِ وَإِيتَابِي ذِي الْقُرْفَ الله
[النحل : الآية .۹۰] . فلو وسع الخلائق والعدل ما قرن الله به الإحسان والعدل
میزان الله تعالى في الأرض الذي يؤخذ به للضعيف من القوي والمحق من
المُبطل. واعلم أن عدل الملك يوجب محبته وجوره يوجب الافتراق عنه،
وأفضل از منة ثوابا أيام العدل.
من أقوال رسول الله ﷺ
وروينا من طريق أبي نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه
قال : العمل الإمام العادل في رعيته يومًا واحدًا أفضل من عمل العابد في أهله مائة
عام أو خمسين عامًا. ورُوِيَ عن النبي أنه قال : عدل ساعة خير من عبادة
سنة . وروينا في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن
النبي أنه قال : ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر،
ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء».
سبعين
عدل عمر بن الخطاب
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار : أخبرني عن جنة
عدن، قال يا أمير المؤمنين لا يسكنها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عادل،
فقال عمر والله ما أنا نبي وقد صدقت رسول الله ﷺ وأما الإمام العادل، فإني
أرجو أن لا أجور وأما الشهادة فأنى لي بها قال الحسن: فجعله الله صديقا
شهيدا حكمًا عدلا .
عدل الإسكندر
سأل الإسكندر حكماء أهل بابل: أيما أبلغ عندكم، الشجاعة أو العدل؟
قالوا : إذا استعملنا العدل استغنينا به عن الشجاعة ويقال : عدل السلطان أنفع من
خصب الزمان . وقيل : إذا رغب السلطان عن العدل رغبت الرعية عن طاعته .
عدل عمر بن عبد العزيز
كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يشكو إليه من خراب
مدينته ويسأله مالا
يرمها به، فكتب إليه عمر قد فهمت كتابك، فإذا قرأت كتابي،
فحصن مدينتك بالعدل ونق طرقها من الظلم فإنه مرمتها والسلام. ويقال: إن
الحاصل من خراج سواد العراق في زمن أمير المؤمنين عمر بن
الله
الخطاب رضي
عنه كان مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف فلم يزل يتناقص حتى صار في
زمن الحجاج ثمانية عشر ألف ألف، فلما ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
ارتفع في السنة الأولى إلى ثلاثين ألف ألف، وفي الثانية إلى ستين ألف ألف،
وقيل : أكثر. وقال: إن عشت لأبلغنه إلى ما كان في أيام أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، فما في تلك السنة.
ومن كلام كسرى لا ملك إلا بالجند ولا جند إلا بالمال، ولا مال إلا
بالبلاد، ولا بلاد إلا بالرعايا ولا رعايا إلا بالعدل.
ولما مات سلمة بن سعيد كان عليه ديون للناس ولأمير المؤمنين المنصور،
فكتب المنصور لعامله استوف لأمير المؤمنين حقه، وفرق ما بقي بين الغرماء، فلم
يلتفت إلى كتابه، وضرب للمنصور بسهم من المال كما ضرب لأحد الغرماء، ثم
كتب للمنصور : إني رأيت أمير المؤمنين كأحد الغرماء، فكتب إليه المنصر: ملئت
الأرض بك عدلاً .
أحمد بن طولون والعود المكسور
وكان أحمد بن طولون والي مصر متحليّا بالعدل مع تجبره وسفكه للدماء،
وكان يجلس للمظالم وينصف المظلوم من الظالم.
أحمد بن طولون والعود المكسور
وكان أحمد بن طولون والي مصر متحليّا بالعدل مع تجبره وسفكه للدماء،
وكان يجلس للمظالم وينصف المظلوم من الظالم.
حكي أن ولده العباس استدعى بمغنية وهو يصطبح يوما، فلقيها بعض
صالحي مصر ومعها غلام يحمل عودها فكسره فدخل العباس إليه وأخبره بذلك،
فأمر بإحضار ذلك الرجل الصالح فلما أحضر إليه قال: أنت الذي كسرت العود،
قال: نعم. قال: فأفعلمت لمن هو ؟ قال: نعم هو لابنك العباس، قال: أفما
أكرمته لي قال : أكرمه لك بمعصية الله عزّ وجلّ والله تعالى يقول: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [التّوبَة : الآية
۱] . ورسول الله ﷺ يقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأطرق
أحمد بن طولون عند ذلك، ثم قال : كل مُنكر رأيته فغيره وأنا من ورائك.
عبد الملك بن مروان واليهودي
وقف يهودي لعبد الملك بن مروان فقال : يا أمير المؤمنين إن بعض خاصتك
ظلمني فانصفني منه وأذقني حلاوة العدل فأعرض عنه، فوقف له ثانيا، فلم
يلتفت إليه فوقف له مرة ثالثة، وقال: يا أمير المؤمنين إنا نجد في التوراة المنزلة
على كليم الله موسى صلوات الله وسلامه عليه : إن الإمام لا يكون شريكا في ظلم
أحد حتى يرفع إليه فإذا رفع إليه ذلك ولم يزله، فقد شاركه في الظلم والجور.
عبد الملك كلامه فزع وبعث في الحال إلى من ظلمه، فعزله وأخذ
سمع
لليهودي حقه منه .
فلما
أنصفني وإلا رفعت أمري إلى الله تعالى
رُوِيَ أن رجلا من العقلاء غصبه بعض الولاة ضيعة له، فأتى إلى المنصور،
فقال له : أصلحك الله يا أمير المؤمنين أأذكر لك حاجتي أم أضرب لك قبلها مثلا؟
فقال : بل اضرب المثل فقال : إن الطفل الصغير إذا نابه أمر يكرهه فإنما يفزع إلى
أمه إذ لا يعرف غيرها وظنا منه أن لا ناصر له غيرها، فإذا ترعرع واشتد كان فراره
إلى أبيه، فإذا بلغ وصار رجلا وحدث به أمر شكاه إلى الوالي لعلمه أنه أقوى من
أبيه، فإذا زاد عقله شكاه إلى السلطان لعلمه أنه أقوى ممن سواه، فإن لم ينصفه
السلطان شكاه إلى الله تعالى لعلمه أنه أقوى من السلطان، وقد نزلت بي
وليس أحد فوقك أقوى منك إلا الله تعالى فإن أنصفتني وإلا رفعت أمري إلى الله
تعالى في الموسم فإني متوجه إلي بيته وحرمه فقال المنصور : بل ننصفك،
وأمر أن يكتب إلى واليه برد ضيعته إليه.
نازلة،
عدل الإسكندر
كان الإسكندر يقول : يا عباد الله إنما إلهكم الله الذي في السماء الذي نصر
نوحًا بعد حين الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة وإليه مفزعكم عند الكرب
والله لا يبلغني أن الله تعالى أحب شيئًا إلا أحببته واستعملته إلى يوم أجلي، ولا
أبغض شيئًا إلا أبغضته وهجرته إلى يوم أجلي وقد أنبئت أن الله تعالى يحب
العدل في عباده ويبغض الجور من بعضهم على بعض فويل للظالم من سيفي
وسوطي، ومن ظهر منه العدل من عمالي فليتكيء في مجلسي كيف شاء، وليتمن
علي ما شاء فلن تخطئه ،أمنيته والله تعالى المجازي كلا بعمله. ويقال: إذا لم
الملك ملكه بالإنصاف خرب ملكه بالعصيان .
يعمر
المأمون ووالي الكوفة
قيل: تظلم أهل الكوفة من واليهم، فشكوه إلى المأمون، فقال: ما علمت
في عمالي أعدل ولا أقوم بأمر الرعية وأعود بالرفق عليهم منه، فقال رجل منهم :
يا أمير المؤمنين ما أحد أولى بالعدل والإنصاف منك، فإن كان بهذه الصفة فعلى
أمير المؤمنين أن يوليه بلدًا بلدًا حتى يلحق كل بلد من عدله مثل الذي لحقنا
ويأخذ بقسطه منه كما أخذنا وإذا فعل ذلك لم يصبنا منه أكثر من ثلاث سنين
فضحك المأمون من قوله وعزله عنهم.
وددت لو أني رأيت يوم عدل ثم مت
قدم المنصور البصرة قبل الخلافة، فنزل بواصل بن عطاء وقال: بلغني أبيات
عن سليم بن يزيد العدوي في العدل فقم بنا إليه، فأشرف عليهم من غرفة، فقال
من هذا الذي معك؟ قال : عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس
27 منهم ، فقال : رحب على رحب وقرب على قرب، فقال: إنه يحب أن
يسمع ابيات في العدل فقال : سمعا وطاعة، وأنشد يقول :
حتى متى لا نرى عدلا نُسرّ به ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسکین بحق قائمين به إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له وقائد ذي عمّى يقتاد عميانا
فقال المنصور : وددت لو أني رأيت يوم عدل ثم مت.
عمر بن عبد العزيز ورد المظالم
قيل: لما ولي عمر بن عبد العزيز أخذ في رد المظالم، فابتدأ بأهل بيته،
فاجتمعوا إلى عمة له كان يكرمها وسألوها أن تكلمه فقال لها : إن رسول الله ﷺ
سلك طريقا، فلما قبض سلك أصحابه ذلك الطريق الذي سلكه رسول الله ﷺ فلما
قضي الأمر إلى معاوية جره يمينا وشمالا وأيم الله لئن مذ في عمري لأردنه إلى
ذلك الطريق الذي سلكه رسول الله وأصحابه فقالت له: يا ابن أخي إني
أخاف عليك منهم يوما عصيبا، فقال كل يوم أخافه دون يوم القيامة، فلا أمننيه
اقوال في العدل والإحسان
وقال وهب بن منبه : إذا هم الوالي بالجور أو عمل به أدخل الله النقص في
أهل مملكته في الأسواق والزروع والضروع (۱) وكل شيء، وإذا هم بالخير والعدل
أو عمل به أدخل الله البركة في أهل مملكته كذلك.
قال الوليد بن هشام إن الرعية لتصلح بصلاح الوالي وتفسد بفساده. وقال
ابن عباس رضي الله عنهما : إن ملكًا من الملوك خرج يسير في مملكته متنكرا،
فنزل على رجل له بقرة تحلب قدر ثلاث بقرات فتعجب الملك من ذلك وحدثته
نفسه بأخذها، فلما كان من الغد حلبت له النصف مما حلبت بالأمس، فقال له
الملك : ما بال حلبها نقص أرعت في غير مرعاها بالأمس؟ فقال: لا ولكن أظن
أن ملكنا رآها أو وصله خيرها فهم بأخذها، فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو
هم بالظلم ذهبت البركة فتاب الملك وعاهد ربه في نفسه أن لا يأخذها ولا
يحسد أحدًا
الرعية، فلما كان الغد حلبت عادتها، ومن المشهور بأرض
من
من
المغرب أن السلطان بلغه أن امرأة لها حديقة فيها القصب الحلو وأن كل قصبة منها
تعصر قدحًا، فعزم الملك على أخذها منها ثم أتاها وسألها عن ذلك، فقالت :
نعم، ثم إنها عصرت ،قصبة فلم يخرج منها نصف قدح، فقال لها : أين الذي كان
يقال؟ فقالت: هو الذي بلغك إلا أن يكون السلطان قد عزم على أخذها مني،
فارتفعت البركة منها، فتاب الملك وأخلص لله النية وعاهد الله أن لا يأخذها منها
أبدا ، ثم أمرها فعصرت قصبة منها فجاءت ملء قدح.
كان يروي
النخلة العادلة
الأخبار
حكى أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه سراج الملوك» قال: حدثني
بعض الشيوخ ممن
بمصر قال : كان بصعيد مصر نخلة تحمل
عشرة أرادب ولم يكن في ذلك الزمان نخلة تحمل نصف ذلك، فغصبها السلطان،
فلم تحمل شيئًا من ذلك العام، ولا تمرة واحدة وقال لي شيخ من أشياخ
الصعيد: أعرف هذه النخلة وقد شاهدتها وهي تحمل عشرة أرادب وستين ويبة
وكان صاحبها يبيعها في سني الغلاء كل ويبة بدينار.
السمك العادل
وحكى أيضا رحمه الله تعالى قال : شهدت في الأسكندرية والصيد مطلق
للرعية والسمك يطفو على الماء لكثرته، وكانت الأطفال تصيده بالخرق من جانب
البحر، ثم حجزه الوالي ومنع الناس من صيده فذهب السمك حتى لا يكاد يوجد
إلى يومنا هذا، وهكذا تتعدى سرائر الملوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم إلى
الرعية إن خيرا فخير وإن شرًا فشر.
الناس حسب ملوكهم يسألون
روى أصحاب التواريخ في كتبهم قالوا كان الناس إذا أصبحوا في زمان
الحجاج يتساءلون إذا تلاقوا من قتل البارحة ومن صلب ومن جلد ومن قطع وما
أشبه ذلك، وكان الوليد بن هشام صاحب ضياع واتخاذ مصانع فكان الناس
يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع والضياع وشق الأنهار وغرس الأشجار،
ولما ولي سليمان بن عبد الملك وكان صاحب طعام ونكاح كان الناس يتحدثون
ويتساءلون في الأطعمة الرفيعة ويتغالون في المناكح والسراري ويعمرون مجالسهم
بذكر ذلك، ولما ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان الناس يتساءلون كم
تحفظ من القرآن وكم وردك كل ليلة وكم يحفظ فلان وكم يختم وكم يصوم من
الشهر وما أشبه ذلك، فينبغي للإمام أن يكون على طريقة الصحابة والسلف رضي
عنهم ويقتدي بهم في الأقوال والأفعال فمن خالف ذلك فهو لا محالة هالك
وليس فوق السلطان العادل منزلة إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، وقد قيل: إن مثله
كمثل الرياح التي يرسلها الله تعالى بشرًا بين يدي رحمته فيسوق بها السحاب
ويجعلها لقاحا للثمرات وروحًا للعباد.
الله
https://youtube.com/@silvercheetah4388?si=MgGgalPzw-tR08Mo